سقوط طويل ومؤلم لـ INTEL
Friday, 29-Aug-2025 07:23

منذ عقود، كانت شركة "إنتل" رمزاً لصناعة التكنولوجيا في وادي السيليكون، العمود الفقري لثورة الحواسيب الشخصية، والاسم الذي ارتبط بالشعار الأشهر Intel Inside على معظم أجهزة الكمبيوتر في العالم. لكنّها تقف اليوم على النقيض تماماً: شركة عملاقة فقدت ريادتها وتحوّلت إلى ما يشبه مشروعاً حكومياً، بعدما اشترت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب 10% من أسهمها بقيمة تقترب من 8,9 مليارات دولار.

تعكس رحلة "إنتل" من القمة إلى هذه المرحلة، إحدى الحقائق الثابتة في عالم التكنولوجيا: حتى أضخم الشركات وأكثرها نفوذاً ليست في مأمن من الانهيار إذا عجزت عن مواكبة الموجات الجديدة.

 

إرث آندي غروف وفلسفة البقاء

 

عام 1968، أسّس "إنتل" روبرت نويس، مخترع الشريحة الإلكترونية، وغوردون مور، صاحب "قانون مور" الشهير، بمشاركة المهندس المجري آندي غروف الذي تحوّل لاحقاً إلى قائد أسطوري للشركة، إذ تولّى منصب المدير التنفيذي بين 1987 و1998، وكرّس ثقافة "المواجهة البنّاءة" تحت شعار شخصي أصبح لاحقاً قاعدة إدارية في وادي السيليكون: "فقط البارانويدون ينجون".

 

في عهده، هيمنت "إنتل" على سوق المعالجات الدقيقة، وفرضت نفسها كمحرّك أساسي للحواسيب الشخصية والخوادم. وأنتج تعاونها مع "مايكروسوفت" ما عُرف بـ"عصر وينتل"، حين كانت معظم أجهزة العالم تعمل بنظام "ويندُوز" ومعالجات "إنتل"، لتصبح الشركتان بين الأكثر قيمة وربحية في التسعينات.

 

بداية الانكسار

 

بعد رحيل غروف، بدأت "إنتل" تخسر قدرتها على استشراف المستقبل. تجاهلت ثورة الهواتف الذكية، وتعثرت في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي 2007، رفض المدير التنفيذي حينها بول أوتيلليني عرضاً من "آبل" لتصنيع شرائح أول "آيفون"، بحجة أنّ السعر منخفض، قبل أن يتحوّل الـ"آيفون" إلى أيقونة غيّرت تاريخ التكنولوجيا. لاحقاً، وصف أوتيلليني القرار بأنّه أكبر خطأ في مسيرته.

 

على رغم من ذلك، استفادت "إنتل" من نمو الحوسبة السحابية، فارتفعت إيراداتها إلى 53 مليار دولار عام 2013، لكنّها وقعت في فخ الاعتماد المفرط على معالجاتها المركزية المربحة.

 

هذه الاستراتيجية، كما وصفها بعض قادتها لاحقاً، كانت أشبه بـ"شجيرة الكريوزوت" التي تمنع النباتات الأخرى من النمو، إذ كانت المشاريع الجديدة تُطلق ثم تُغلق سريعاً لغياب الصبر أو لعدم نضوج التقنية.

 

إخفاقات متتالية

 

من أبرز الإخفاقات التي كبّلت الشركة:

 

- فشل مشروع تطوير معالج رسومي قادر على معالجة بيانات ضخمة بالتوازي، وهو ما فتح الباب أمام شركة "إنفيديا" لاحتلال الصدارة لاحقاً في مجال الذكاء الاصطناعي.

- محاولة متأخّرة لدخول سوق الهواتف عبر استثمار مليارات في تطوير شرائح مودم للـ"آيفون"، لكنّها انتهت بخسارة وبيع النشاط لـ"آبل".

- التراجع في تصنيع الشرائح المتقدّمة بين 2015 و2019، ما سمح لكل من TSMC التايوانية و"سامسونغ" الكورية بتجاوزها تقنياً.

 

محاولات إنقاذ فاشلة

 

في 2021، عاد غيلسنغر إلى الشركة بخطة طموحة لإطلاق 5 عمليات تصنيع جديدة خلال 4 سنوات، مستنداً إلى "قانون الرقائق" الأميركي الذي خصّص 50 مليار دولار لدعم الصناعة المحلية. استثمرت "إنتل" أكثر من 100 مليار دولار في مصانع بأريزونا، أوريغون، نيو مكسيكو، وأوهايو.

 

لكن مع انفجار الطلب على المعالجات الرسومية التي شكّلت العمود الفقري لثورة الذكاء الاصطناعي عقب ظهور Chat-GPT عامَي 2022 و2023، وجدت "إنتل" نفسها خارج اللعبة. تهافتت شركات الحوسبة السحابية على شرائح "إنفيديا"، فيما غرقت "إنتل" في ارتفاع تكاليف التصنيع وضعف المبيعات.

 

في تشرين الثاني الماضي، حصلت على 7,86 مليارات دولار من أموال "قانون الرقائق"، لكنّ ذلك لم يمنع إقالة غيلسنغر وتعيين ليب-بو تان، أحد المخضرمين في قطاع أشباه الموصلات. حاول تان صياغة استراتيجية جديدة تُركّز على الذكاء الاصطناعي وخفض النفقات، لكنّ ضغوط السياسة سرعان ما أطاحت به بعد 5 أشهر فقط، حين طالب ترامب باستقالته بسبب استثماراته في شركات صينية منافسة.

 

التدخّل الحكومي

 

لتسوية الأزمة، اتفق ترامب مع تان على أن تمنح "إنتل" الحكومة الأميركية 10% من أسهمها مقابل الدعم المالي. خطوة اعتُبرت أكبر تدخّل حكومي في شركة تكنولوجية أميركية منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.

 

وفي بيان رسمي، أوضح متحدّث باسم "إنتل"، أنّ تان "تحرّك بسرعة لإعادة صياغة الشركة وتعزيز القيادة الأميركية في مجال التكنولوجيا والتصنيع"، مرحِّباً بالاستثمار الحكومي كجزء من "الأولويات الوطنية".

 

من رمز إلى ظل

 

اليوم، تبلغ القيمة السوقية لإنتل نحو 108 مليارات دولار، بينما قفزت "إنفيديا" لتصبح الشركة الأكثر قيمة في العالم بأكثر من 4,3 تريليونات دولار.

 

يُلخّص المشهد التبدّل الجذري في موازين القوى داخل صناعة الرقائق، إذ تحوّلت "إنتل" من عملاق يقود وادي السيليكون إلى شركة تقاتل من أجل البقاء تحت جناح الحكومة.

 

قصة "إنتل" ليست مجرّد سرد لفشل إداري أو أخطاء استراتيجية، بل تحذير صارخ من أنّ النجاح التاريخي لا يضمَن المستقبل. ما كان يخشاه آندي غروف (التدخّل الحكومي، الجمود، والخطوات المتردّدة) تحقق بالكامل. والسؤال اليوم: هل يمكن لـ"إنتل" أن تنهض مجدّداً، أم ستبقى مجرّد ذكرى من عصر ذهبي مضى؟

الأكثر قراءة